نوثّق في هذا التقرير أنماطًا جديدة من الابتزاز التي يتعرّض لها مواطنون سوريون خلال المرحلة الانتقالية، ويقف خلف عمليات الابتزاز عناصر من السلطات الأمنية، وكذلك شخصيات محسوبة على هذه السلطات ومقرّبة منها. وتنطلق هذه العمليات من خلفيات طائفية أو تمييزية، سواء على أساس الانتماء المناطقي أو على أساس التمييز بين مهجّر عائد ومقيم لم ينزح من مناطق سيطرة النظام السابق.
يعتمد هذا التقرير على شهادات مباشرة من الضحايا، أو من شهود مطّلعين بشكل مباشر على ملفات الابتزاز ومنخرطين فيها بدرجة تؤهّلهم لتقديم الشهادة. ويوضّح التقرير مثالًا على آليات اعتماد الشهادات في الحالات التي يتعذّر فيها الاعتماد على شهادة الضحية مباشرة؛ إذ إن أحد الضحايا رجل متقدّم في السن، وحالته الصحية لا تساعده على المتابعة أو الإدلاء بشهادة تفصيلية، ما دفع بابنه إلى متابعة القضية ومساندة والده، وبناءً عليه تم اعتماد شهادة الابن.
ويتكتّم مركز مناهضة العنف والكراهية على أسماء الشهود والضحايا حفاظًا على سلامتهم وأمنهم، في ظل بيئة ينعدم فيها الأمان في الوقت الراهن.
ابتزاز ورشوة على يد عناصر رسميين
في شهر تشرين الأول/أكتوبر 2025، اتصل عنصر في جهاز المخابرات بشاب أكاديمي من عائلة ميسورة الحال، وأبلغه أنهم يجرون “دراسة أمنية” عنه، وطلب منه اللقاء. وفي اليوم التالي جرى اللقاء في أحد المقاهي بمدينة اللاذقية، حيث طرح العنصر عليه أسئلة شخصية تتعلّق بدراسته وعمله.
ويقول الشاهد إن طبيعة الأسئلة تشبه إلى حدّ كبير الأسئلة التي كان يطرحها عناصر الأجهزة الأمنية سابقًا أثناء إجراء الدراسات الأمنية قبل التوظيف أو عند إعداد تقارير أمنية بحق أشخاص معيّنين.
ويضيف الشاهد، وهو الضحية، أن العنصر الذي عرّف عن نفسه بالأحرف الأولى “أ. ش” لم يُجب عن أيّ من أسئلته حول سبب هذه الدراسة أو خلفياتها، إلا أن اللقاء الأول انتهى بشكل اعتيادي وبلطف ظاهري.
وبعد نحو أسبوعين، تلقّى الشاهد اتصالًا جديدًا من العنصر ذاته طلب فيه لقاءً ثانيًا في المقهى نفسه. وعند وصوله، وجد أن العنصر برفقة شخص آخر قدّمه على أنه زميله في جهاز الاستخبارات، وقال له: “اليوم أنت عازمنا على القهوة”.
بعد ذلك، أبلغه العنصر بأن وضعه “صعب جدًا”، وأنه في خطر حقيقي، وأن هناك اتهامات موجّهة إليه بأنه “فلول نظام” ويعمل على تأسيس جماعة مسلّحة، رغم أن الشاهد يؤكد أنه لم يؤدِّ حتى الخدمة العسكرية الإلزامية.
وأضاف الشاهد أن العنصر أبلغه بأنه يريد “مساعدته” كي لا “يتبهدل” ويتدمّر مستقبله، مشيرًا إلى أن عائلته ميسورة وقادرة على دفع مبلغ من المال “لمساعدة ابنها”. وطلب منه مبلغًا من المال بالدولار الأميركي مقابل “تبييض صفحته” في التقرير الأمني وإنقاذه من العواقب المحتملة.
ويختم الشاهد بأنه أكّد للعنصر أن الاتهامات كيدية وغير صحيحة، إلا أن الأخير أصرّ عليها. وتحت التهديد والخوف، رضخ الشاهد ودفع مبلغًا ماليًا بعد عدة أيام من اللقاء. ويعيش الشاهد حاليًا حالة قلق وخوف مستمرين من تكرار عملية الابتزاز.
ابتزاز الأهالي الذين لم ينزحوا إلى إدلب
في إحدى القرى الواقعة غرب محافظة حلب، عاد أحد الأشخاص إلى القرية بعد إسقاط نظام الأسد. وكان هذا الشخص عنصرًا في فصيل مسلّح، ويقيم سابقًا في محافظة إدلب حيث كان يعمل ضمن فصيله. وبحسب وصف الشهود، يتمتّع هذا العنصر بنفوذ واسع وسلطة معنوية كبيرة لدى أجهزة السلطات الحالية.
قام هذا العنصر باتهام أحد كبار السن في القرية بأنه كان على خلاف مع والده قبل نحو 30 عامًا، وأن بينهما حسابًا ماليًا لم يُسوَّ بعد. وعلى هذا الأساس، تقدّم بشكوى إلى مخفر المنطقة الموجود في القرية، فاستجاب المخفر فورًا للشكوى وقام باحتجاز الرجل المسن.
وعقب ذلك، بدأت أسرة الرجل المحتجز بالتفاوض مع العنصر، الذي طلب مبلغًا ماليًا. وبعد مفاوضات، تم الاتفاق على مبلغ استطاعت العائلة تأمينه ودفعه. وبعد الدفع، قام العنصر بإبلاغ المخفر بإخلاء سبيل الرجل، فتم الإفراج عنه دون تنظيم أي ضبط شرطة، ودون توثيق رسمي للتنازل عن الشكوى.
ويشير ابن الضحية إلى أن والده رجل متقدّم في السن ويعاني من صعوبات كبيرة في الحركة، وأن القضية من أساسها غير قانونية. ويضيف أن العائلة توجّهت إلى المخفر برفقة محامٍ عقب اعتقال والدهم، حيث أبلغ المحامي رئيس المخفر بأن الاحتجاز غير قانوني، وأنه لا توجد قضية أصلًا، وإن وُجدت فهي ساقطة بالتقادم نظرًا لانقضاء عشرات السنين عليها.
إلا أن رئيس المخفر رفض الاستجابة للمحامي أو التعامل وفق الأصول القانونية. وبحسب ابن الضحية، فإن تدخل المخفر لم يكن تدخلًا قانونيًا، بل جاء للمساعدة في عملية الابتزاز المالي. كما نفى الشاهد، نقلًا عن والده، أن يكون يعرف والد العنصر أو تربطه به أي علاقة سابقة.
ويصنّف الشاهد هذه القضية في إطار الابتزاز الذي تتعرّض له العائلات التي بقيت في مناطق سيطرة النظام السابق، في ظل الصراع القائم بينها وبين بعض العائدين من الشمال السوري.
ويؤكد التقرير أن القانون السوري يعتبر هذه القضية ساقطة بالتقادم، ولا يعاقب عليها بعد مرور أكثر من 35 عامًا. كما أن مثل هذه المطالبات، إن وُجدت، يجب أن تُقدَّم بصيغة ادعاء شخصي أمام القضاء المختص، لا أمام مخفر الشرطة، الذي لا يملك صلاحية توقيف أشخاص في نزاعات مالية مدنية. ويُعدّ توقيف الرجل في هذه الحالة تجاوزًا واضحًا لصلاحيات المخفر.
ثمن كيس إسمنت عمره 29 عامًا
في حادثة أخرى تم توثيقها في محافظة حماة، تعرّض رجل في الستين من عمره لعملية تهديد وابتزاز لدفع مبلغ مالي مقابل كيس إسمنت يعود إلى 29 عامًا مضت.
وبحسب الشاهد، جاء أحد العائدين إلى حماة من إدلب إلى محلّه التجاري، وادّعى أنه في عام 1994 ترك لديه كيس إسمنت، وأنه لم يُعاد إليه ولم يُدفع ثمنه حتى اليوم.
وعندما سأله الشاهد عن سبب عدم مطالبته بثمن الكيس خلال الثلاثين عامًا الماضية، أجاب الرجل بأنه “لم يكن يتذكّر الموضوع” إلا مؤخرًا.
ويبيّن الشاهد أن الرجل دخل إلى داخل المحل وهو مسلّح ببندقية، ويرافقه ثلاثة أشخاص آخرين على دراجتين ناريتين كانوا ينتظرونه أمام مدخل المحل، وجميعهم مسلّحون.
ويضيف الشاهد أن الشخص الذي يطالبه بثمن كيس الإسمنت يُعدّ حاليًا من أصحاب النفوذ، ولديه صلات قوية مع السلطات، التي تنحاز – بحسب وصفه – للعائدين من إدلب. وبسبب التهديد المباشر بالسلاح، ولتفادي أي أذى، اضطر الشاهد إلى التفاوض معه، وانتهت القضية بدفع مبلغ 450 دولارًا أميركيًا مقابل عدم التعرّض له مرة أخرى. ويؤكد الشاهد أنه لا يعلم إن كانت القضية قد انتهت بالفعل بعد الدفع، أم أنه قد يتعرّض لابتزاز جديد في المستقبل.
الابتزاز المقصود في هذا التقرير
يقصد مركز مناهضة العنف والكراهية بمصطلح الابتزاز في هذا التقرير كل فعل يتضمّن تهديدًا مباشرًا أو غير مباشر باستخدام النفوذ الأمني، أو الصفة الوظيفية، أو السلاح، أو الاحتجاز، أو الاتهام الكيدي، بقصد الحصول على منفعة مالية أو مادية، دون وجود سند قانوني، وبما يضع الضحية أمام خيارين قسريين: الدفع أو التعرّض للأذى أو الملاحقة أو الاعتقال.
توصيف قانوني إجمالي
تشير الحالات الموثّقة في هذا التقرير إلى نمط متكرّر من الانتهاكات التي ترقى قانونيًا إلى الابتزاز، والتهديد، وإساءة استعمال السلطة، والتوقيف التعسفي، وفرض الإتاوات تحت الإكراه. كما تُظهر الوقائع استخدام مؤسسات رسمية، مثل المخافر، أو صفات أمنية فعلية أو مُدّعاة، كأدوات ضغط خارج الإطار القانوني، بدلًا من الالتزام بالأصول القضائية المنصوص عليها في القانون السوري.
ويُبيّن التقرير أن معظم هذه الوقائع تتعلّق بمطالبات مالية ملفقة أو تفتقد لإمكانية التحقق منها، وإن وجدت فهي سقطت بالتقادم، أو لا تُشكّل أصلًا جرائم جزائية، ما يجعل أي إجراء أمني أو احتجاز على خلفيتها إجراءً تعسفيًا وغير قانوني. ويؤكد ذلك الحاجة الملحّة إلى ضبط عمل الأجهزة الأمنية، وضمان عدم توظيف النفوذ أو السلاح في النزاعات المدنية، حمايةً للحقوق الأساسية وللسلم الأهلي خلال المرحلة الانتقالية.


